4) معيار تقدير أعمار البشر
تأملات قرآنية - معيار تقدير أعمار البشر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ... أما بعدفكلنا نؤمن إيماناً مطلقاً بعدل الله عز وجل .. وكيف لا ؟ وهو الذي سمى نفسه سبحانه وتعالى ( العدل )
ولكن هنالك سؤال مٌلِح يجب أن نجد إجابته من خلال عـدل المولى الكريم سبحانه على أن تكون الاجابه من وحي القرآن الكريم وآياته المحكمة ..
والسؤال يقول/عندما نقف بين يدي الله عز وجل يوم القيامة ما الذي يمنع أحد نا من أن يقول :- يارب إنك قد وهبتني من العمر كذا وعشرون أو كذا وثلاثون أو كذا وأربعون ( يعني عمراً لا يتجاوز الستون سنة مثلاً ) في الدنيا ولم تمد في عمري كما مددت لفلان الذي عاش أضعاف أضعاف عمري كنوح عليه السلام الذي عاش ما يربو على التسعمائة سنه وقومه فكان لديهم فرصة أفضل مني في التوبه والرجوع إليك بقلب تائب منيب وأنت العدل سبحانك فأين عدلك في ذلك بيني وبينهم ..؟
إن الله جل في علاه قد قسم الأعمار بين بني آدم وعدل في قسمته تلك سبحانه وتعالى فمن يستطيع أن يقول لي أين العدل في أن يقسم الله من العمر لفلان خمسون سنه وآخر بثلاثون سنة ؟؟.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بحمده تدوم النِعم ,, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للأمم .. نبينا محمد وعلى آله وصحبه عدد ما خط القلم ، وعلينا وعلى من اتبعه ووالاه إلى يوم البعث والنشور ..
أما بعد
فكلنا نعلم بأننا يوما بين يدي الله موقوفون ، وعن أعمالنا محاسبون ، في ذلك اليوم العظيم ( يوم الوقوف في محكمة الرب العظيم ) وكـل ٌ يدافع عن نفسه بكل ما أوتي من قوة لينجو بنفسه من عذاب النار .. " نستجير بالله منها "قال الله تعالى من قائل كريم :( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) )وقال تعالى في سورة المجادلة ( ۞ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (16) لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ۖ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) )
نستخلص من الآيات السابقة أن كل واحد منا سوف يقف ويجادل عن نفسه بكل ما أوتي من قوة وقد يصل البعض ألى أنه سوف يحلف بالله ليبرر أفعاله ولكن الله يعلم بأنه كاذب .. والأعظم من ذلك ، أن هذا الحالف يعلم في قرارة نفسه بأنه كاذب وأن الله يعلم بأنه كاذب حتى من قبل أن يقدم على الحلف وبرغم ذلك يحلف كذبا .. فلماذا .. ؟كل تلك المجادلة وكل تلك المحاولات المستميتة لينجو بنفسه من النار.
حسنا إذا تعالوا نبحث لأنفسنا عن مخرج من هذا الموقف العظيم ... ماذا إن حاججت ربي بأنه سبحانه قد اختار لي زمني ورفقتي وأنني إنما ارتكبت المعاصي لكوني في زمنها .. وبين اهلها .. وإنى اتمنى أن لو كنت في زمن أهل العدل ، كزمن الرسول صل اللهم عليه وسلم لأكون له صاحبا .. أو في زمن صحابته الأجلاء رضي الله عنهم أجمعين فأجد من يعينني على إتيان الطاعات وترك المعاصي )
السؤال هنا قال تعالى { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) } [ الكهف:49]
.. يؤكد لنا عز وجل أنه لايظلم سبحانه , فإذا ظن المجرمون أن يحاجوا الله عز وجل على بعض الأمور ... كموقعهم الذي جاءوا فيه في الزمان ( بين الأولين والآخرين ) .. هنا يخبرنا الله عز وجل بأن ظنهم هذا مردودٌ علىهم ...
فكيف انتفى وانعدم وجود الظلم في ميزان يزن عمل من عاش بصحبة أشرف الخلق عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم وبين عمل من عاش في زمن الفتن التي وصفها عليه الصلاة والسلام بأنها كقطع الليل المظلم . وأن القابض على دينه حينها كالقابض على الجمر ...؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله .. أما بعد فإن هذه الحجة لهي حجة قوية تنجي صاحبها من كل مأزق إذا كان المحاج بها بشر أو مخلوق ... ولكنها تضيع وتضمحل إن أحد حاجّ بها ( الله خالق الخلق ومدبّر الأمر من قبل ومن بعد .. الله أعدل الحاكمين ) .. كيف ذلك إن الخلق جميعهم مدبَّرون أما الخالق سبحانه فهو المدبِّر ومن شأن المدبِّر سبحانه أنه يعلم حال المدبَّر
- ومن منطلق العدل عند الله سبحانه وتعالى أن من عدله سبحانه قد آتى كل أحدٍ من البشر حرية الاختيار في مايكون له .. وفي أي زمن يكون .. ومن أي فئة يكون .. وكيف لا وقد قال جلّ من قائلٍ كريم ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (172) )
هذا دليل على أننا عندما أخرجنا إلهنا من ظهور آبائنا كنا أحياء نعقل ونتكلم والدليل ( قالوا ) قد يأتي أحدٌ من المجادلون ليقول إن القول هنا ليس بمعنى النطق إنما جاء لفظ القول بمعنى الدلالة أي أننا لم نقل ذلك بصوت مسموع إنما كان القول بصفة الحال ، وليس بصفة النطق ..
نقول له ولكل من سيحذوا هذا المنحى إذا كنت تستنكر القول علينا في ذلك الحال .. فكيف تؤمن بأننا اخترنا التكليف وكيف لك أن تتصور أن الله قد يقبل منا ذلك إذا لم نكن مدركين ولمنكن على قدرٍ من المسؤلية التي طلبناها .. أولم يقل عز وجل ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) )
أليس صفتي الظلم والجهل منوطتين بالقدرة على الاختيار والإدراك الكامل للفعل والقول ..؟
لا يقبل المولى عز وجل من مخلوقٍ خلقه أن يتصدى لأمر ويقبل به إلا إن كان هذا المخلوق مدركاً وله قدرة على الاختيار ولايمكن أن يسلّم الله له تلك القدرة على الاختيار إلا إذا كان هذا المخلوق أهلاً لها . وأقصد بذلك ( العاقل )
وبناءً عليه فإن الله لما عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأشفقن منها ومن عظمتها وأن الإنسان قد تصدى لحمل هذه الأمانة .. وهي الروح .. ( روح الله فينا ) خيّر كل أحدٍ منا كل الخيارات اللازمة وهذا باب العدل الذي به عاملنا جل في علاه .. ثم أخرج الله كل أبناء آدم من ظهور آبائهم وسألهم سؤال الحجة المطلق ( ألستُ بربكم ) عندها أجبناه جميعا ( بلى ) ولم نكتفي بتأكيد ربوبيته سبحانه علينا إنما أثبتنا بأننا عقلاء مدركون بأن قلنا أننا شاهدون على ذلك بقولنا ( شهدنا )
وهنا يأتي قوله الكريم ( فإما يأتينّكم مني هدى ) والهدى جاء هنا بمعنى النور .. يقال لا اهتدي الطريق في ظلمة الليل .. أي لا أستطيع أن أرى الطريق لشدة الظلام .. وهذه منَّة امتنَّها الله علينا سبحانه وتعالى إذ وهب لنا نوراً نستنير به في ظلمة الدنيا ،، ثم قال سبحانه ( فمن تبع هدايَ فلا خوفٌ عليهم ولاهم يحزنون ) أي لاخوفٌ عليهم من السقوط في الزلات والمعاصي ولا هم يحزنون أي لن يندموا عند اللقاء يوم الحساب . إذاً أحبتي في الله نخرج مما سبق ببعض الأمور المستخلصة وهي :
1- أن الله جل في علاه عندما عرض الأمانة لم يعرضها على الإنسان ، لكن الإنسان لما رأى أن المعروض عليهم قد أشفقوا منها تصدى لحملها من تلقاء نفسه ونرى أن تلك الصفة مجبولون عليها كصفة رئيسية في بني الإنسان وأكثر ماتظهر وتبين لنا من أطفالنا إذ ترى الطفل ينبري ويتصدى لفعل شيء من الأشياء وإن لم يوجه إليه الاختيار ولربما لو استرجع الإنسان منا بذاكرته لوجد أنه قد فعل هذا الفعل في صغره مع أبواه .
2- استجابة الله سبحانه وتعالى لطلب الإنسان لحمل الأمانة وفي ذلك دلالة واضحة على أن الإنسان مخلوق مدرك قبل حمل الأمانة وإلا لما حمّلها الله إياه لأن ذلك سيكون ظلماً للإنسان _ وسبحانه الله وتعالى عن الظلم .
3- خيّر كل إنسان في مقتضيات التكليف ومقومات معيشته ومسلكه في الحياة الدنيا حتى يستطيع حمل الأمانة كما يجب . ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر موقعه في التاريخ الإنساني ولمن يكون نسبه وفيمن يكون عشرته وعشيرته وما إلى ذلك.
4- سؤال الله عز وجل لنا في قوله ( ألست بربكم ) دليل قطعي على أن المسؤول هنا مقبل على حال يكون فيه بين مفترق طرق إما العمل بمقتضى أن الله ربه أو العمل بمقتضى مخالف لذلك . قال تعالى ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)) [ الإنسان:3]
5- أنا قبل نزولنا إلى الأرض مررنا بمراحل عدة أصلها الإنساني ثم التكويني ثم النسب ثم الهبوط
وهذا هو جواب السؤال والله أعلم
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡
الخلاصة
بناءً على ما سبق ، نَخلُص إلى أن الله جل في علاه بعد أن عَرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال ، وبعد أن أبين جميعهن أن يحملنها وأشفقن منها ، ثم أعلن الإنسان عن استعداده لحملها بدون أن تُعرض عليه أصلاً .. حمّله الله سبحانه وتعالى إياها ..
وبناءً على ذلك صار لزاماً أن ينتقل من طور وخلق الانسانية المجردة من التكليف ، إلى طور وخلق آخر وهو الانسانية البشرية وبذلك أمات الله سبحانة الانسانية الموتة الأولى ليبعثه في طوره الجديد
قال الله سبحانة ( مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) ) سورة نوح
وقال سبحانة ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) ) سورة البقرة
كنتم أمواتاً : في مستهل خلق طوركم البشري
وليتم استكمال بناء الحياة الجديدة ( حياة التكليف / الحياة البشرية ) جعل الله سبحانه ارتباط الانسانية في طورها البشري ارتباطاً تسلسلياً أحفاد لآباء لأجداد فجعل آدم عليه السلام هو أول هذا السلسلة البشرية ليصبح بذلك هو أبو البشرية .. وقسم هذا الجنس الجديد البشري إلى قسمين ( الذكر والأنثى ) إذا استخلص حواء من ضلع آدم عليهما السلام ليكونا نواة ومنطلق هذه السلسلة البشرية قال تعالى ( وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ (45) مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَىٰ (47) ) سورة النجم
جائت الإماتة والإحياء في الآية التي سبقت تقسيم الخلق البشري إلى زوجين ( ذكر وأنثى ) وذلك في إشارة إلى أنه سبحانه قد أمات الإنسان ثم أحياه لخلقه في الطور البشري ليقسمهم إلى ذكر وأنثى
وقال سبحانه ( أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ (39) أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ (40) ) سورة القيامة
ولمقتضى التكليف الذي حمّله الله للإنسان تبعات أخرى ( من باب عدله سبحانه ورحمته ) وهي تسليم الانسان البشري مفاتيح الاختيار ليختار بنفسه عدة أمور هي ( نسبه لحدد أمه وأبوه .. زمانه الذي يأتي فيه .. وطول عُمْره في الدنيا .. ) حتى لايكون له بعد ذلك حُجّة
عندما أكل أبونا آدم عليه السلام من الشجرة المحرمة في الجنة ، مرّر الخالق سبحانة ذلك الجزء المأكول علينا نحن أبناء آدم في ظهره فأكل كُل واحدٍ منا جزء معين ولذلك نتفاوت في بقائنا في الدنيا بناءً على المقدار الذي اكله كل واحد منا من الجزء من الشجرة .. وبذلك فإن عُمْر الانسان في الدنيا منوط بمقدار ما أكل من الشجرة .. والله تعالى أعلم
وصل اللهم على نبينا محمد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله .. أما بعد فإن هذه الحجة لهي حجة قوية تنجي صاحبها من كل مأزق إذا كان المحاج بها بشر أو مخلوق ... ولكنها تضيع وتضمحل إن أحد حاجّ بها ( الله خالق الخلق ومدبّر الأمر من قبل ومن بعد .. الله أعدل الحاكمين ) .. كيف ذلك إن الخلق جميعهم مدبَّرون أما الخالق سبحانه فهو المدبِّر ومن شأن المدبِّر سبحانه أنه يعلم حال المدبَّر
- ومن منطلق العدل عند الله سبحانه وتعالى أن من عدله سبحانه قد آتى كل أحدٍ من البشر حرية الاختيار في مايكون له .. وفي أي زمن يكون .. ومن أي فئة يكون .. وكيف لا وقد قال جلّ من قائلٍ كريم ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (172) )
هذا دليل على أننا عندما أخرجنا إلهنا من ظهور آبائنا كنا أحياء نعقل ونتكلم والدليل ( قالوا ) قد يأتي أحدٌ من المجادلون ليقول إن القول هنا ليس بمعنى النطق إنما جاء لفظ القول بمعنى الدلالة أي أننا لم نقل ذلك بصوت مسموع إنما كان القول بصفة الحال ، وليس بصفة النطق ..
نقول له ولكل من سيحذوا هذا المنحى إذا كنت تستنكر القول علينا في ذلك الحال .. فكيف تؤمن بأننا اخترنا التكليف وكيف لك أن تتصور أن الله قد يقبل منا ذلك إذا لم نكن مدركين ولمنكن على قدرٍ من المسؤلية التي طلبناها .. أولم يقل عز وجل ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) )
أليس صفتي الظلم والجهل منوطتين بالقدرة على الاختيار والإدراك الكامل للفعل والقول ..؟
لا يقبل المولى عز وجل من مخلوقٍ خلقه أن يتصدى لأمر ويقبل به إلا إن كان هذا المخلوق مدركاً وله قدرة على الاختيار ولايمكن أن يسلّم الله له تلك القدرة على الاختيار إلا إذا كان هذا المخلوق أهلاً لها . وأقصد بذلك ( العاقل )
وبناءً عليه فإن الله لما عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأشفقن منها ومن عظمتها وأن الإنسان قد تصدى لحمل هذه الأمانة .. وهي الروح .. ( روح الله فينا ) خيّر كل أحدٍ منا كل الخيارات اللازمة وهذا باب العدل الذي به عاملنا جل في علاه .. ثم أخرج الله كل أبناء آدم من ظهور آبائهم وسألهم سؤال الحجة المطلق ( ألستُ بربكم ) عندها أجبناه جميعا ( بلى ) ولم نكتفي بتأكيد ربوبيته سبحانه علينا إنما أثبتنا بأننا عقلاء مدركون بأن قلنا أننا شاهدون على ذلك بقولنا ( شهدنا )
وهنا يأتي قوله الكريم ( فإما يأتينّكم مني هدى ) والهدى جاء هنا بمعنى النور .. يقال لا اهتدي الطريق في ظلمة الليل .. أي لا أستطيع أن أرى الطريق لشدة الظلام .. وهذه منَّة امتنَّها الله علينا سبحانه وتعالى إذ وهب لنا نوراً نستنير به في ظلمة الدنيا ،، ثم قال سبحانه ( فمن تبع هدايَ فلا خوفٌ عليهم ولاهم يحزنون ) أي لاخوفٌ عليهم من السقوط في الزلات والمعاصي ولا هم يحزنون أي لن يندموا عند اللقاء يوم الحساب . إذاً أحبتي في الله نخرج مما سبق ببعض الأمور المستخلصة وهي :
1- أن الله جل في علاه عندما عرض الأمانة لم يعرضها على الإنسان ، لكن الإنسان لما رأى أن المعروض عليهم قد أشفقوا منها تصدى لحملها من تلقاء نفسه ونرى أن تلك الصفة مجبولون عليها كصفة رئيسية في بني الإنسان وأكثر ماتظهر وتبين لنا من أطفالنا إذ ترى الطفل ينبري ويتصدى لفعل شيء من الأشياء وإن لم يوجه إليه الاختيار ولربما لو استرجع الإنسان منا بذاكرته لوجد أنه قد فعل هذا الفعل في صغره مع أبواه .
2- استجابة الله سبحانه وتعالى لطلب الإنسان لحمل الأمانة وفي ذلك دلالة واضحة على أن الإنسان مخلوق مدرك قبل حمل الأمانة وإلا لما حمّلها الله إياه لأن ذلك سيكون ظلماً للإنسان _ وسبحانه الله وتعالى عن الظلم .
3- خيّر كل إنسان في مقتضيات التكليف ومقومات معيشته ومسلكه في الحياة الدنيا حتى يستطيع حمل الأمانة كما يجب . ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر موقعه في التاريخ الإنساني ولمن يكون نسبه وفيمن يكون عشرته وعشيرته وما إلى ذلك.
4- سؤال الله عز وجل لنا في قوله ( ألست بربكم ) دليل قطعي على أن المسؤول هنا مقبل على حال يكون فيه بين مفترق طرق إما العمل بمقتضى أن الله ربه أو العمل بمقتضى مخالف لذلك . قال تعالى ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)) [ الإنسان:3]
5- أنا قبل نزولنا إلى الأرض مررنا بمراحل عدة أصلها الإنساني ثم التكويني ثم النسب ثم الهبوط
وهذا هو جواب السؤال والله أعلم
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡
الخلاصة
💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡💡
الخلاصة
بناءً على ما سبق ، نَخلُص إلى أن الله جل في علاه بعد أن عَرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال ، وبعد أن أبين جميعهن أن يحملنها وأشفقن منها ، ثم أعلن الإنسان عن استعداده لحملها بدون أن تُعرض عليه أصلاً .. حمّله الله سبحانه وتعالى إياها ..
وبناءً على ذلك صار لزاماً أن ينتقل من طور وخلق الانسانية المجردة من التكليف ، إلى طور وخلق آخر وهو الانسانية البشرية وبذلك أمات الله سبحانة الانسانية الموتة الأولى ليبعثه في طوره الجديد
قال الله سبحانة ( مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) ) سورة نوح
وقال سبحانة ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) ) سورة البقرة
كنتم أمواتاً : في مستهل خلق طوركم البشري
وليتم استكمال بناء الحياة الجديدة ( حياة التكليف / الحياة البشرية ) جعل الله سبحانه ارتباط الانسانية في طورها البشري ارتباطاً تسلسلياً أحفاد لآباء لأجداد فجعل آدم عليه السلام هو أول هذا السلسلة البشرية ليصبح بذلك هو أبو البشرية .. وقسم هذا الجنس الجديد البشري إلى قسمين ( الذكر والأنثى ) إذا استخلص حواء من ضلع آدم عليهما السلام ليكونا نواة ومنطلق هذه السلسلة البشرية قال تعالى ( وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ (45) مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَىٰ (47) ) سورة النجم
جائت الإماتة والإحياء في الآية التي سبقت تقسيم الخلق البشري إلى زوجين ( ذكر وأنثى ) وذلك في إشارة إلى أنه سبحانه قد أمات الإنسان ثم أحياه لخلقه في الطور البشري ليقسمهم إلى ذكر وأنثى
وقال سبحانه ( أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ (39) أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ (40) ) سورة القيامة
ولمقتضى التكليف الذي حمّله الله للإنسان تبعات أخرى ( من باب عدله سبحانه ورحمته ) وهي تسليم الانسان البشري مفاتيح الاختيار ليختار بنفسه عدة أمور هي ( نسبه لحدد أمه وأبوه .. زمانه الذي يأتي فيه .. وطول عُمْره في الدنيا .. ) حتى لايكون له بعد ذلك حُجّة
عندما أكل أبونا آدم عليه السلام من الشجرة المحرمة في الجنة ، مرّر الخالق سبحانة ذلك الجزء المأكول علينا نحن أبناء آدم في ظهره فأكل كُل واحدٍ منا جزء معين ولذلك نتفاوت في بقائنا في الدنيا بناءً على المقدار الذي اكله كل واحد منا من الجزء من الشجرة .. وبذلك فإن عُمْر الانسان في الدنيا منوط بمقدار ما أكل من الشجرة .. والله تعالى أعلم
وصل اللهم على نبينا محمد